رشيد نيني -
raninyster@gmail.com
في الوقت الذي كان فيه وفد من أعضاء اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، برئاسة الوزير الأول عباس الفاسي، يترحم على قبر علال الفاسي في مقبرة الشهداء، كانت عائلة المختطف عبد السلام الطود تتسلم رفات هذا الأخير من المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وتدفنها وسط حضور جماهيري كبير بمقبرة مدينة القصر الكبير.
وفي الوقت الذي خلد فيه حزب الاستقلال هذه الأيام الذكرى الـ36 لرحيل علال الفاسي، خلدت عائلة الشوري عبد السلام الطود الذكرى الـ54 لاختطافه واغتياله من طرف ميليشيات حزب الاستقلال.
كانت تهمة عبد السلم الطود، مثل كثيرين طاردهم حزب الاستقلال واعتقلهم وعذبهم حتى الموت، هي معارضته العلنية لاتفاقية «إكس ليبان» التي أفضت إلى الاستقلال المشروط للمغرب، ومعارضته لحزب الاستقلال الذي كان يدافع عن هذه الاتفاقية التي تفاوض بشأنها مع الفرنسيين في مدينة «إكس ليبان»، والتي ظلت بنودها سرية إلى اليوم.
ربما ليست صدفة أن يسلم المجلس الاستشاري رفات مختطف يحمل حزب الاستقلال دمه في ثيابه إلى اليوم، مع مطالب هنا وهناك تنادي برحيل عباس الفاسي عن الحكومة، في تزامن مع قرب تقديمه لحصيلته الحكومية، أو «حصلته» على الأرجح، أمام البرلمان.
كما ليست صدفة أن يتزامن إخراج رفات ظلت مختفية طيلة 54 سنة مع احتفال حزب الاستقلال، المتهم الرئيس في قضية اختطاف وقتل صاحب الجثة، بالذكرى السنوية الـ36 لوفاة زعيمه علال الفاسي الذي لم يمت في الجبهة مقاوما للمستعمر، ولم يمت بسبب المرض فوق سريره، وإنما مات بعد وجبة عشاء دسمة في ضيافة دكتاتور رومانيا «نيكولاي تشاوسيسكو» الذي جاء من يقتاده ذات صباح إلى حديقة قصره لقتله رميا بالرصاص رفقة زوجته.
وبعيدا عن كل هذه المصادفات، تطرح رفات المختطف عبد السلام الطود، العائد أخيرا إلى أهله ومدينته، سؤالا عميقا حول التاريخ الدموي لحزب الاستقلال. وهو التاريخ الذي غطى عليه بإحكام التناول الإعلامي المتكرر حد التخمة لمآسي سنوات الرصاص على عهد الراحل الحسن الثاني.
مثل هذه المراحل تستحق، فعلا، دراسة تاريخية علمية متجردة من طرف طلبة كلية الآداب بالرباط الذين ستفتح أمامهم إدارة الكلية، بشراكة مع المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، «ماستر» حول «التاريخ الراهن» للمغرب. ولعل الفترة الأهم في كل هذا التاريخ الراهن للمغرب هي الفترة التي سبقت مفاوضات «إكس ليبان» والفترة التي تلتها، خصوصا تلك الممتدة ما بين 1956 و1959، تاريخ حل جيش التحرير واعتقال الفقيه البصري الناطق الرسمي باسم المقاومة، وتصفية الزعماء حدو أقشيش وإبراهيم الوازاني وعباس المساعدي على يد الاستقلالي محمد الغزاوي، الذي أرسله الفرنسيون من مفاوضات «إكس ليبان» ليجلس فوق كرسي الإدارة العامة للأمن الوطني بمهمة واحدة ووحيدة هي تصفية العناصر الأساسية في جيش التحرير.
ولعل أول سؤال يجب أن يجيب عنه الباحث في «التاريخ الراهن» للمغرب هو لماذا جاءت مفاوضات «إكس ليبان»؟ كثيرون يعتقدون أن المقاومة الشرسة للمغاربة كانت وحدها كافية لإجبار الفرنسيين على الجلوس إلى طاولة المفاوضات. والحال أن عوامل أخرى ساعدت على حصول هذه المفاوضات، منها تكبد الجيش الفرنسي في الهند الصينية هزائم ثقيلة جعلته يفكر في سحب جيوشه من مستعمراته.
بينما يبقى السبب الأهم في ذهابهم نحو المفاوضات هو رغبتهم في تقويض مخطط مكتب المغرب العربي بقيادة الأمير عبد الكريم الخطابي الذي فر من قبضة الفرنسيين عندما رست السفينة التي كان معتقلا على متنها في «بور سعيد»، واستقر في القاهرة يحرر «ميثاق 47» الذي ينص البند الثاني فيه على ضرورة مواصلة الكفاح حتى تحرير المغرب العربي الكبير.
وهذا الميثاق وقعه آنذاك علال الفاسي من المغرب والحبيب بورقيبة من تونس والشاذلي المكي من الجزائر. فكان ضروريا أن تجد فرنسا طريقة لفك ارتباط «مكتب المغرب العربي»، فاقترح رئيس الحكومة الاشتراكي «بيير مونديس فرانس» الاستقلال الذاتي على تونس، فقبلت. واقترح على المغرب مفاوضات «إكس ليبان» فقبل. وهكذا، انفردت فرنسا بالجزائر التي تعتبرها الأولى امتدادا طبيعيا لها.
والاتفاق الذي وقع عليه وفد حزب الاستقلال المفاوض كان يقضي بضمان استقلال المغرب داخل الاستعمار، أو ما كان الفرنسيون يسمونه آنذاك «الاستقلال داخل التبعية» Indépendance dans l'interdépendance.
وهكذا، فالصراع بين حزب الاستقلال والمنشقين عنه كان يدور حول نقطة أساسية هي مفاوضات «إكس ليبان» التي منحت المغرب استقلالا مشروطا بتبعية اقتصادية شبه كاملة لفرنسا. فكان ضروريا لكي يستطيع حزب الاستقلال الوفاء بتعهداته التي وقع عليها مع الفرنسيين أن يشيد معتقلاته السرية التي سيختطف فيها معارضيه لتعذيبهم وتصفيتهم فيما بعد. وهذه المعتقلات السرية التي عرفها المغرب قبل معتقل تمارة السري بسنوات طويلة، لديها أسماء كان يعلم بها علال الفاسي، وأبرزها معتقل «جنان دار بريشة» بتطوان ومعتقل «غفساي» ودار المقري بالرباط.
وداخل هذه المعتقلات تمت تصفية المئات من معارضي حزب الاستقلال من طرف ميليشيات تابعة للحزب بقيادة المدير العام للأمن الوطني محمد الغزاوي، وإلى اليوم لازالت رفات هؤلاء المختطفين مجهولة، وأبرزهم الأخوان الحداوي اللذان كانا ينتميان إلى منظمة «الهلال الأسود».